سلطنة مقديشو الإسلامية من خلال رحلة ابن بطوطة

سلطنة مقديشو الإسلامية من خلال رحلة ابن بطوطة

سلطنة مقديشو الإسلامية (*)

       تقع مقديشو على الساحل الشرقى الأفريقى ، وهى الآن عاصمة لدولة الصومال. وكان الزيديون الشيعة قد نزلوا بساحل الصومال من شرقى أفريقية ، قريبا من موقع مدينة مقدشو حوالى سنة 122 هـ / 739 م. وبسطوا مواطنهم بالتدريج على متداد الساحل ، واختلطوا بالسكان الأصليين، وصاهروهم ، ونشروا الاسلام بينهم. ثم جاءت هجرة عربية أخرى من قبيلة بنى الحارث ، يقودها سبعة أخوة ، وأنشأوا مقدشو فى سنة 295 هـ / 908م ، عندئذ انسحب الزيديون الى داخل الإريقية ، وتركوا الساحل لبنى الحارث ، وهم من أهل السنة. ثم تحالف بنو الحارث مع أهل الصومال المحليين ، وأقاموا مدنا أخرى فى هذه المنطقة. وقد أسس بنو عبد الحارث فى مقدشو مملكة إسلامية قوية ذات شوكة ونفوذ ، ومن ثم صارت مقدشو مركزا تجاريا هاما على الساحل الشرقى لقارة أفريقية.

سلطنة مقديشو الإسلامية من خلال رحلة ابن بطوطة
سلطنة مقديشو الإسلامية من خلال رحلة ابن بطوطة

رحلة ابن بطوطة

ترجمة ابن بطوطة (703 – 779 هـ) :

       هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن ابراهيم اللواتى الطنجى ، المعروف باسم : ابن بطوطة. ولد فى طنجة فى سنة 703 هـ ، نشأ فى عائلة ميسورة الحال ، تنتسب الى قبيلة لواتة  ،  وكانت أسرة اشتهرت بالعلم والفقه ، وكان منها الفقهاء والقضاه فى بلاد المغرب والأندلس ، حفظ ابن بطوطة القرآن وهو صغير ، وألم بعلوم الدين ، ودرس اللغة العربية على يد أبيه. وكان الشاب مغرما بقراءة كتب الرحلات والجغرافيين من العرب والمسلمين ، وكان يميل الى معرفة أخبار البلدان والممالك وتاريخها ، والشعوب وحضاراتها ، وغرائب البلدان وعجائب الدنيا والمخلوقات.

        ولما شب ابن بطوطة ، تحقق له الحلم وهو أن يطوف البلدان ، ودامت رحلاته وأسفاره أكثر من 27 سنة ، وهى ربما من أطول رحلات التى قام بها الانسان عبر التاريخ. وكانت رحلة يغلب عليها الطابع الدبلوماسى ، لاسيما فى بلاد السودان الغربى ، وكان موفدا من السلطان أبى عنان. وكانت أولى رحلاته الى بلاد الحجاز ليؤدى مناسك الحج ، وبدأ هذه الرحلة فى رجب سنة 725 هـ ، وهو ابن اثنتين وعشرين سنة. وقد زار خلالها بلدان عدة فى المغرب الأوسط والأدنى ، ثم زار مصر وانبهر بها وبحضارتها ، ثم زار ما استطاع من مدنها. وعن طريق عيذاب ، على ساحل البحر الأحمر ، غير أن قتالا نشب بين الحدربى سلطان البجاة ووالى سلطان مصر فى عيذاب ، وأحرقت السفن. عندئذ ركب ابن بطوطة الى ادفو بصعيد مصر ، ثم الى القاهرة ، واتجه الى سيناء فى طريقه الى بلاد الشام. ثم قدم الى غزة ، ثم الخليل ، ثم رحل الى لبنان ، وحمص ، وحماة ، وحلب ، ثم دمشق. ثم رافق ركب الحج من بلاد الشام ، وزار المدينة ، ثم مكة ، وزار العراق ومدنها : النجف وبغداد والبصرة وواسط. بعدئذ عبر ابن بطوطة الخليج العربى ، وذهب الى بلاد فارس ، وتنقل بين مدنها : عبدان ، وتستر ، وأصفهان ، وشيراز ، وكازون. ومن غربى إيران ، عبر ابن بطوطة نهرى دجلة والفرات الى الكوفة ، مغادرا أرض عراق العجم الى عراق العرب ، والتقى بسلطان فارس والعراق السلطان أبى سعيد. ثم زار سامراء ، وقلعة تكريت ، ثم عاد الى بغداد ، ولحق موكب الحج العراقى ، وزار بلاد الحجاز مرة أخرى. ثم غادر مكة متجها الى بلاد اليمن ، ثم ركب البحر الأحمر الى سواكن ، ثم عاد الى اليمن مرة أخرى ، وذهب الى عدن ، ثم أبحر منها عابرا الى باب المندب ، ثم الى زيلع على الساحل الشرقى لأفريقية.

سلطنة مقديشو الإسلامية من خلال رحلة ابن بطوطة
سلطنة مقديشو الإسلامية من خلال رحلة ابن بطوطة

ابن بطوطة فى مقدشو

        ولم يطق البقاء فى زيلع بسبب نتنها ، ثم ركب البحر قاصدا مقدشو. وقد قضى حوالى خمسة عشر يوما من زيلع الى مقدشو فى البحر. وقد قال عنها : “وهى مدينة متناهية فى الكبر ، وأهلها لهم جمال كثيرة ينحرون منها المئين فى كل يوم. ولهم أغنام كثيرة ، وأهلها تجار أقوياء ، وبها تصنع الثياب المنسوبة اليها التى لا نظير لها ، ومنها تحمل الى ديار مصر وغيرها…” (1). وقد أعجب ابن بطوطة بمقدشو ، وكبرها ، وثراء أهلها ، وأنها كانت تشتهر كمدينة تجارية هامة على ساحل المحيط ، ولهذا كانت تعج بالتجار الكبار. ويشير الى أنها كانت تشتهر بالثياب ، وكانت تصدرها الى مصر.

       ثم يذكر ابن بطوطة أن هذه المدينة إذا حضر اليهم السفن تحمل السلع والتجار ، وكانت لأهل مقدشو طرق فى التعامل مع التجار القادمين الى بلادهم ، وكانو أهل جود وكرم ، وحسن ضيافة لزوارها. يقول ابن بطوطة : “ومن عادة أهل هذه المدينة أنه متى وصل مركب الى المرسى تصعد الصنابق ، وهى القوارب الصغيرة اليه ، ويكون فى كل صنبوق جماعة من شبان أهلها ، فيأتى كل واحد منهم بطبق مغطى فيه الطعام ، فيقدمه لتاجر من تجار المركب ، ويقول : هذا نزيلى. وكذلك يفعل كل واحد منهم. ولا ينزل التاجر من المركب الا الى دار نزيله من هؤلاء الشبان الا من كان كثير التردد الى البلد…” (1). ولما الشبان الى قارب من ابن بطوطة ، قال رفقته لهم إنه ليس تاجرا ، ولهذا قالوا أنه بذلك يكون نزيل قاضى المدينة ، وذهب ابن بطوطة الى القاضى : ” فنزلت أنا وأصحابى وسلمت على القاضى وأصحابه ، وقال لى : بسم الله نتوجه للسلام على الشيخ. فقلت : من الشيخ ؟ فقال : السلطان…” (2). وكان من عادة أهل مقدشو أن يطلقوا على سلطانهم لقب : الشيخ ، وكان من عادتهم الطيبة أيضا أنه إذا جاء فى مراكب التجار أحد العلماء  أو الأشراف أو الصالحين ، فانهم كانوا يأتون به الى مقابلة سلطان مقدشو حتى يرحب ويكرم وفادته ، وهو ما يشير الى تقدير سلطان مقدشو للعلماء ، واحترامهم. ثم تحدث ابن بطوطة عن سلطان مقدشو ، وذكر أن اسمه : أبوبكر بن الشيخ عمر ، وهو من أصول بربرية ، وكان يتحدث العربية ، كما كان يتحدث لغة أهل مقدشو ، أو كما ذكرها ابن بطوطة باسم : المقدشى : “ولما وصلت مع القاضى المذكور وهو يعرف بابن البرهان المصرى الأصل الى دار السلطان ، خرج بعض الفتيان فسلم على القاضى فقال له : بلغ الأمانة ، وعرف مولانا الشيخ أن هذا الرجل قد وصل من الحجاز، فبلغ ، ثم عاد…” (3). وقد أحسن سلطان مقدشو الى ابن بطوطة ، وأمر بأن ينزل فى ما يعرف باسم “دار الطلبة” ، وهى دار كانت معدة لطلبة العلم ، وهى تقع بالقرب من قصر السلطان. ثم جاء الطعام الى ابن بطوطة من قصر السلطان ، وكان يرافقه واحد من وزراء السلطنة ، وهو الموكل له استقبال الضيوف ، وهو ما يشير الى حسن ضيافتهم ، ونظامهم فى الحياة. ثم أخذ ابن بطوطة يتحدث عن طعام أهل مقدشو ، وأطباقهم المشهورة ، وما تميزوا به من طعام ، ثم أضاف قائلا فى حب أهل مقدشو للطعام : “والواحد من أهل مقدشو يأكل قدر ما تأكله الجماعة منا عادة…” (4).

       وظل الطعام يأتى ابن بطوطة من قصر السلطان كل يوم ثلاث مرات ، وهذه عادة القوم ، وهو من جودهم ، وكرمهم. وفى اليوم الرابع لاقامته فى مقدشو ، وكان يوم الجمعة ، جاء قاضى المدينة ، وواحد من وزراء السلطان وحملوا له هدية من السلطان ، وهى كسوة : “وكسوتهم فوطة خز يشدها الانسان فى وسطه ، عرض السراويل ، فإنهم لا يعرفوننا ، ودراعة من المقطع المصرى معلمة ، وفرجية من القدسى مبطنة ، وعمامة مصرية معلمة ، وأتوا لأصحابى بكسى تناسبهم…” (1). وهى اشارات تظهر أن المنتجات المصرية كانت ذائعة فى سلطنة مقدشو ، وخاصة من الثياب والملبوسات ، وغيرها.

      وفى هذا اليوم قابل من ابن بطوطة سلطان مقدشو ، الذى رحب به بشدة ، وقال له بلغة العرب : “قدمت خير مقدم ، وشرفت بلادنا ، وآنستنا…” (2). ثم خرج السلطان الى صحن مسجد المدينة الكبير ، وبه قبر أبى السلطان ، فقرأ له ، ودعا له ما طاب له من الدعاء. ثم أخذ ابن بطوطة فى نعت مجلس السلطان ، والأمراء وكبار رجال البلاط وذلك فى يوم الجمعة ، حيث لهم عادات ومراسم يعملونها فى هذا اليوم المبارك : “ورفعت فوق رأسه أربع قباب من الحرير الملون ، وعلى أعلى كل قبة صورة طائر من ذهب ، وكان لباسه فى اليوم فرجية قدسى أخضر ، وتحتها من ثياب مصر وطروحاتها الحسان. وهو متقلد بفوطة حرير ، وهو معتم بعمامة كبيرة ، وضربت بين يديه الطبول والأبواق والأنفار ، وأمراء الأجناد أمامه وخلفه ، والقاضى والفقهاء والشرفاء معه. ودخل الى مشورهعلى تلك الهيئة. وقعد الوزراء والأمراء ووجوه الأجناد فى سقيفة هنالك وفرش للقاضى بساط لا يجلس معه غيره عليه ، والفقهاء والشرفاء معه. ولم يزالوا كذلك حتى صلاة العصر. فلما صلوا العصر مع الشيخ أتى جميع الأجناد ووقفوا صفوفا على قدر مراتبهم ثم ضربت الأطبال والأنفار والأبواق والصرنابات وعند ضربها لا يتحرك أحد ولايتزحزح من مقامه، ومن ماشيا وقف ، فلم يتحرك الىخلف ولا الى أمام ، فإذا فرغ من ضرب الطلبخانة سلموا بأصابعهم ، وانصرفوا ، وتلك عادة لهم فى كل يوم جمعة…” (3).

       كما أن أهل مقدشو لهم مجلس ومراسيم خاصة بمجلس السلطان فى يوم السبت من كل أسبوع. يقول ابن بطوطة : “وإذا كان يوم السبت يأتى الناس الى باب الشيخ فيقعدون فى سقائف خارج الدار ، ويدخل القاضى والفقهاء والشرفاء والصالحون والمشايخ والحجاج الى المشور الثانى فيقعدون على دكاكين خشب معدة لهم لذلك ويمون القاضى على دكانة وحده…ثم يجلس الشيخ بمجلسه ويبعث الى القاضى فيجلس عن يساره ثم يدخل الفقهاء…ثم يدخل الوزراء ثم الأمراء ثم وجوه الأجناد طائفة بعد طائفة أخرى…ويؤتى بالطعام فيأكل بين يدى الشيخ القاضى والشرفاء ومن كان قاعدا بالمجلس…ويقصد القاضى والوزراء وكاتب السر وأربعة من كبار الأمراء للفصل بين الناس وأهل الشكايات…” (1). وهذا هو اليوم الذى يجلس فيه القاضى حتى يحكم فى امور أهل مقدشو ومن كانت له مظلمة ، أو شكاية ، وإن كان يوجد أمر جلل ، فكانوا يكتبوا فيه الى السلطان ليفصل هو فيه.

       وهنا تنتهى رحلة ابن بطوطة فى سلطنة مقدشو الاسلامية ، بعد أنقضى بها أياما طيبة ، ولقى بها حفاوة وترحابا وكرما من سلطان البلاد وكذلك كبار رجال البلاط ، ربما لم ينلها ابن بطوطة فى باقى أسفاره ، وهو فى كلامه عن مقدشو ، تشعر براحة باله ، وهناء مقامه فى هذه البلاد الطيبة من بلاد المسلمين. ثم أعد ركابه ، واستعد لرحلة جديدة ، قاصدا بلاد السواحل الى مدينة كلوا من بلاد الزنوج.

ـــــــــــــ

(1) ابن بطوطة : ص 233

(1) ابن بطوطة : الرحلة ، ص 230

(1) ابن بطوطة : ص 232

(2) المصدر السابق ، ص 232

(3) المصدر السابق ، ص 232

(1) ابن بطوطة : الرحلة ، ص 230

(2) المصدر السابق ، ص 230

(3) المصدر السابق ، ص 231

(4) المصدر السابق ، ص 231

التغير في الشعر السواحيلى من الكلاسيكية إلى الحداثة

قد يعجبك ايضا
اترك رد

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد